ذكرى لـيلة...*
في هذه الليلة نفسها.. بل في ساعتي هذه، وقد انفضّ السامرون، وغفا الليل، وانداح الصمت على مدى الأفق كلِّه وخشع كلُّ شيء لجلالِ هذا السكون الرهيب..
في ساعتي هذه، من هذا الليل الذي أنا ساهِرُه،.. أراني يعودُ بيَ الزمن، في لحظةٍ واحدة، إلى ستة أعوام ٍ خلتْ، فإذا بي في ساعةٍ كهذه الساعة عينها ليلة 15 أيار (مايو) عام 1948.
ثم أراني تدورُ بيَ الأرضُ ساعتئذٍ، فتنقلني في طرفة عين، إلى مكانٍ بعيد وراءَ الصحراء، فإذا أنا قابعٌ وحدي في زاوية بيتي بالكاظمية (1) من بغداد، أتململ على نفسي أمام المذياع وأستجمع إليه كلَّ ما في ذاتي من وجدان وكلَّ ما في وجداني من هواتف تتناقض وتتصارع: هواتف من الحسِّ والكراهية، ومن الحنان والحقد، ومن التمنّي والجزع، ومن الطمأنينة والقلق، ومن الحماسة والانقباض، ومن اللهفة العارمة والهمود المنطفئ ...
وهذا أنا أجدني في هاتيك الساعةِ نفسِها منذ ستةِ أعوام، وفي تلك الزاوية عينها في بيتي البعيد هناك، يكاد كلُّ ما بي من حواسَّ ومشاعرَ ومداركَ وعواطف، يتحوّلُ إلى أُذُنٍ تسمعُ مرتقبةً كلَّ اهتزازةٍ في الأثير يلتقطها الكهرباء من آفاق فلسطين ...
وكانت أشباحُ المأساة تتراءى من هناك، وراء الليل الرهيب، لمن شاء أن يرى بواعيّته إلى ما هناك ... وكانت النُذُرُ كلُّها تُشيرُ إلى ههنا وههنا إلى هاتيك الأشباحِ وهي تتطاولُ بأعناقها من وراء السُحُبِ واللهَبِ والدخان، فيُخيَّلُ للمخدوعين أنها تباشيرُ النصر المبين ...
كانت أشباحُ المأساة تتراءى هكذا، وكنتُ كأني أراها تتحرك بين عينيَّ على ذراعٍ واحد مني، ولكن الموقفَ كان من الرهبةِ والروعةِ بحيثُ قلَبَ الأشياءَ في نفْسي، فإذا أنا أرقبُ النصرَ في لحظات، وإذا بي أكاد أُهلّلُ بملء فمي للظافرين، وإذا بيديَّ كلتيْهما تندفعان إلى ما وراء الأبعاد، وتكادان أن تحتضنا كلَّ جنديٍّ وقائدٍ في الجيوش السبعة المجاهدين المنقذين ...
***
يا لكِ ليلةٌ في عمر أمة! ... ويا لكَ من نصرٍ كانتْ شياطينُ "الخيانة" راصدةً له كلَّ طريق، وكانتْ أشباحُ المأساة تنهضُ بين يديْه عند كلِّ خطوة ... حتى عثر النصر، فضحكت "الخيانة" واستطالت المأساة، وقامتْ هناك "دولة "...
إنها ليلةٌ في عمرِ أمة.. ولكن هناك صُبحاً وراء الليل لا بدّ أن يطلع، ولكن هناك شعباً وراء المأساة لا بدّ أن يصرعَ "الأشباح" ولا بدّ أن ينتصر ...
(1) الكاظمية ـ ضاحية كبيرة من ضواحي بغداد.
*من ذكريات الشهيد حسين مروة عن نكبة فلسطين في العام 1948... سردها في مقالته بعد ست سنوات من هذه الذكرى الأليمة، وذلك في جريدة الحياة البيروتية ـ زاوية "مع القافلة"