السبت، آب/أغسطس 23، 2025

الشعب في مكان والسلطة في مكان آخر

 
لبنان لا يغرق فقط في مياه الأمطار ووحولها كلما اشتد المطر، بل يغرق في الفساد والتلوث، وفي العجز والمديونية، وفي لجة الانهيار الاقتصادي والمالي أيضاً. ومع ذلك ما يزال سير سلطة القرار، أبطأ من السلحفاة. وهم يعلمون مدى خطورة الوضع، وعدم استطاعتهم تجاهل الانتفاضة والغضبة الشعبية، والمطالب والحقوق التي تنادي بها. لكنّهم ينطلقون أوّلاً، من مصالحهم هم، وتثبيت مواقعهم على كراسي السلطة، قبل وفوق مصالح الشعب والوطن. لقد أربكتهم هذه الانتفاضة العابرة للطوائف، وظهّرت التباينات والاختلافات بينهم، وأدّت إلى إسقاط حكومة "وحدتهم الوطنية" في الشارع. وسقطت معها تلك المفاهيم الكاذبة، المبنية على الطائفية وتحاصصاتها، كالميثاقية، والتوافقية، والوحدة الوطنية، التي عَنَت وتعني، وحدتهم هم، وتوافقاتهم على مصالحهم في مواقع السلطة وفي حصص الهدر والفساد. ويكشف تحايلهم من جديد، لتركيب حكومة "وحدة وطنية" من نفس طينة الطبقة السلطوية. إنّ السلطة في مكان، والشعب وانتفاضته في مكان آخر. ويدرك الكثيرون من الناس، أنّ من أوصل بلاده إلى الإنهيار، ويجعل حياة شعبه جحيماً، ليس هو من يُخرج البلد والشعب من حالة الانهيار. فالسارقون يُحالون إلى المحاسبة ويتمّ استعادة المال العام الذي نهبوه. ولا تتمّ مكافأتهم بإعادتهم من جديد إلى السلطة. والكلام المعسول والوعود البرّاقة التي سئم الناس سماعها في تصريحات المسؤولين، لم يَعُد تكرارها ينطلي عليهم. وطالما بقي بناء السلطة وتشكيل الحكومات على الأسس والمفاهيم نفسها، أي التحاصص الطائفي، ووفق ذهنية التسابق على الحقائب المهمة والدسمة، فلن يكون الشعب مطمئناً. وليست ثقة المجلس النيابي للحكومة، هي الأساس، بل ثقة الشعب. ثقة الانتفاضة، التي تطالب بإصرار، بأن تكون الحكومة مستقلة ولفترة انتقالية، وببرنامج يقضي بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وفق قانون نسبي وغير طائفي ولبنان دائرة واحدة. وليس مقنعاً ولا مقبولاً الامتناع عن إجراء الانتخابات المبكرة، بذريعة، أنّ المجلس النيابي الحالي قد انتُخب منذ حوالي سنتين. فبلدان كثيرة تُقدم على إجراء انتخابات مبكرة لأسباب أقل بكثير مما جرى ويجري في بلدنا. والمسلّم به دستوريّاً، أنّ الشعب هو المرجعية الأساسية، وهو الأصيل الذي من حقه نزع الوكالة من الذين أوكلهم، وإيكال بديل عنهم. إنّ انتفاضة شعبنا الرافضة لسياسة الانهيار والفساد والمطالبة بالتغيير، إذ تمثّل المصالح والحقوق الاجتماعية والطبقية للشعب ، فإنّها تحمل مضموناً وبُعداً وطنياً في مجابهتها سياسة التبعية الاقتصادية والمالية لمخططات ومراكز الرأسمال العالمي، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وباريس 1و2و3 ، والآن سيدر، التي تُغرق الوضع الاقتصادي والمالي اللبناني، بالمزيد من التبعية، وصولاً إلى الضغط لإرضاخ لبنان سياسيّاً أيضاً لمصالحها. إنّ تعدّد المنافذ التي تدخل منها المخططات الأميركية- الصهيونية، من العدوان العسكري، إلى التناقض الذي يَستولده النظام الطائفي، إلى الشأن الاقتصادي والمالي وغيره، يظهر الترابط بين مجالات مواجهة العدو نفسه. وهذا ما يستدعي من جميع قوى المقاومة والمواجهة، دعم الانتفاضة واكتساب أوسع قاعدة شعبية، في مواجهة سياسة الإفقار والتجويع والفساد من جهة، والتبعية الاقتصادية والمالية لمؤسسات الرأسمالية الكبرى والدور الأميركي فيها، من جهة أخرى.وأهمية هذه الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة، لا تكمن فقط فيما فرضته على السلطة من امتناع فرض ضرائب على الشعب في موازنة 2020، ولا حتى في إسقاط الحكومة، ومنع انعقاد جلسة المجلس النيابي، والعفو المشبوه، الذي كان على جدول أعمال الجلسة. فقد حرّكت مِئات الآلاف الذين خرجوا من حالة الصمت والرضوخ لما هو قائم، وشكّلت عامل وعي يظهر قدرة الشعب ودوره على الفعل، وجذبت الأوساط بمطالبها وشعاراتها التغييرية، ممّن خرجوا على الولاء لزعمائهم وطوائفهم. وإذا كان التنوع نقطة ضعف في انتظامها، فإنه نقطة قوة لها في الوقت نفسه. فقد أيقظت الانتفاضة الحلم لدى الناس وبخاصة الشباب، وأنعشت الأمل بإمكانية التغيير وبناء وطن لجميع أبنائه. والمؤكد الآن هو أنّ تجاهل دور الشعب، من قبل أي سلطة، لم يعُدْ ممكناً.

الانتفاضة الشعبية: المسار والأطوار

يصدِفُ أن تلتقيَ بشخصٍ تعرفه وأنت تمشي في الشارع ليسارع بسؤالك السؤال الآتي "شو وين صرتو؟" وكأنّه ينتظر من الانتفاضة الشعبية أن تحقّق تغييراً شاملاً لسلطة متجذّرة ولدت إبّان إعلان دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠، من خلال خمسين يوماً من التظاهرات. عجيبٌ أمر هذه الشريحة من المواطنين وكأنّ الانتفاضة ستعطي مفاعيل وتأثيراتٍ في غاية السرعة. ثمّة قوانين ناظمة لأيّ حركةٍ جماهيرية علّمتنا إيّاها تجارب الشعوب المنتفضة، بالاستناد إلى التراث الماركسي- اللينيني، فقد وضعت الأخيرة الأسسَ التنظيمية للثورة اشتراكية التي تبدأ بتنظيم صفوف الطبقة العاملة، وتمرّ بحتمية رفع مستوى وعي هذه الطبقة، ومن ثمّ تأطير نضال الطبقة العاملة على المستوى السياسي وأخيراً القيام بالفعل الثوري. في حقيقة الأمر، دائماً ما يُنظر إلى "الحراك- الانتفاضة- الثورة" وكأنّها تأخذ خطّاً مستقيماً تصاعدياً وهذا ما تدحضه ثورات الشعوب المنتفضة في أمكنة وأزمنة عديدة. إنّ الاعتقاد بأنّ "الحراك- الانتفاضة- الثورة" يأخذ هذا الخطّ التصاعدي يحيلنا إلى الاعتقاد بأنّ الرسم البياني لها هو عبارة عن منحنى الجرس أو ما يعرف بالـ "bell curve". على عكس هذا الاعتقاد، فإنّ مسار "الحراك- الانتفاضة- الثورة" هو أقرب إلى تعرجات غير مستقيمة، أفقياً وعموديّاً، تماماً كما حركة التاريخ، فكما قال لينين أنّه يمكن أن تمر عشرون سنة في التاريخ مفعولها كيوم واحد، وأن يمر يوم واحد يراكم في مساره ما يعادل عشرين سنة. في هذا السياق، فإنّ شكل "الحراك- الانتفاضة- الثورة" هو بالضرورة عبارة عن أطوار مختلفة تتشكّل من منحنيات مختلفة. فلنأخذ الثورة المصرية مثالاً، فإنها مرّت بأربعة أطوار لغاية الآن. في الطور الأوّل، سقط حسني مبارك (٢٠١١) ليستلم من بعده الحكم المجلس العسكري لفترة انتقالية قادت إلى تنظيم انتخابات جديدة وتعديلات دستورية. الطور الثاني كان عندما أفضت الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٢ إلى فوز محمد مرسي، الذي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، بسدة الرئاسة. الطور الثالث حدث عندما أُزيح مرسي بفعل انقلابٍ عسكريّ وبضغط شعبي قاده عبد الفتاح السيسي (حزيران ٢٠١٣) ليتولّى المنصب رسميّاً عام ٢٠١٤. الطور الرابع والحديث نسبيّاً تمثّل في تظاهرات شهدتها عدّة مدن مصرية في أيلول/سبتمبر من العام الحالي (٢٠١٩). بهذا المعنى، فإنّ الثورة هي سيرورة مستمرة في الزمن. ولكلّ "حراك- انتفاضة- ثورة" نقطة تحول (turning point) هي عبارة عن تجميع كمّي لظروف ذاتية وموضوعية، بعضها مرئي وبعضها الآخر غير مرئي، ومن ثم تلتئم في ظرفٍ سياسي معيّن ليتحول هذا التراكم الكمّي إلى تحوّل نوعي (راجع المقالة السابقة: التراكم التاريخي لانتفاضة ١٧ أكتوبر). عند إسقاط هذه النظرية على الحالة اللبنانية، فإنّ نقطة التحول التي أّدّت إلى اندلاع الانتفاضة كانت ضريبة الواتساب التي اقترحتها الحكومة السابقة، على محدودية أبعادها السياسية. ولّد هذا الأمر انفجاراً شعبياً هائلاً، فكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير فأطلقت الثورة الشعبية من قمقمها. لقد أدّى ذلك برئيس الحكومة الى إعلان استقالة حكومته بعد ١٢ يوماً من المظاهرات في مختلف المناطق اللبنانية. اليوم وبعد أكثر من خمسين يوماً من عمر الانتفاضة الشعبية لتاريخه، فإنّ الانتفاضة قد استنفذت جميع أشكال الاعتراض الشعبي في طورها الأوّل من خلال اعتصامات وتظاهرات وقطع طرقات وإقفال مرافق عامة وحملات على المصارف وتحركات طلابية وقطاعية عديدة. إنّ انتقال الانتفاضة من الطور الأوّل إلى الطور الثاني مرهونٌ بظروف وتطوّرات، بعضها ذاتي ينتج عن مدى قدرة قوى الانتفاضة بالانتقال من شكلها الحالي إلى شكل أكثر جذرية، وهنا المسؤولية الأساس تقع على عاتق الحزب الشيوعي اللبناني بصفته الحزب الثوري الفاعل في صفوفها. والبعض الآخر من الظروف هو ظروف موضوعية تمليها تطورات الوضعين السياسي والاقتصادي وما قد ينتج عنهما. في الشقّ السياسي، فإنّ تشكّل حكومة تكنو-سياسية يرأسها الحريري أو غيره، قد يكون محطة مفصلية أخرى للانتفاضة لأنّ التغيير الموعود في هذه الحالة لم يعكس المزاجَ الشعبي المطالب بحكومة وطنية انتقالية من خارج المنظومة الحاكمة، وعندئذٍ سيكون للانتفاضة كلمتها لناحية رفض هذه الحكومة. أمّا في الشق الاقتصادي- الاجتماعي، فينبغي النظر إلى خمسة مسارات سيكون لها تأثيرات سلبية على مختلف الشرائح الاجتماعية، وبالأخص الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. المسار الأوّل هو استمرار المصارف بحجز أموال المودعين الصغار وتقييد عملية السحب النقدي. المسار الثاني يكمن في موجة الغلاء المستمرة في الأسواق مع ما يقابلها من إمكانية فقدان أو شحّ المواد الغذائية الأساسية والأدوية والمستلزمات الطبية. المسار الثالث يكمن في توجه مؤسسات القطاع الخاص بتسريحٍ جماعي للعمّال والموظفين أو قضم حقوقهم عبر إعطائهم نصف معاش، وعبر ذلك ستزيد أعداد العاطلين عن العمل بشكل مطّرد في سوق عمل يتميّز أصلاً بقلّة فرص العمل فيه. المسار الرابع يكمن في تناقص سيولة الدولة اللبنانية إلى الحدّ الذي سيجعلها غير قادرة على دفع رواتب وأجور العاملين في القطاع العام بمؤسساته المختلفة. المسار الخامس والأخير يكمن في استمرار تقلّبات سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي حيث وصل إلى عتبة الـ٢٣٠٠ ليرة (الخميس في ٢٨ تشرين الثاني/ نوفمبر). إذاً مراقبة هذه المسارات وتفاعلها مع المسار السياسي سيكون له نتائج وتأثيرات عديدة على مستوى الانتفاضة الشعبية وانضمام شرائح اجتماعية عديدة إليها، وبالتالي تجذّرها أكثر على مستوى الفاعلية والخطاب السياسي المرافق لتطوّرها. إنّ اشتداد وقع الازمة الاقتصادية- الاجتماعية بدأ يدفع بالمواطنين بالإقدام على الانتحار في مؤشّرٍ خطيرٍ لما آلت وستؤول إليه الأوضاع. وفي هذا السياق، فقد سُجّلت ثلاث حالات انتحار في الفترة الممتدّة من ١ كانون الأول/ ديسمبر وحتى ٤ من الشهر نفسه. بناءً على ما تقدّم، فإنّ انتهاء الطور الاوّل من الانتفاضة لا يجب أن يحيلنا إلى اعتقاد بأنّ الانتفاضة الشعبية انتهت أو خفّ وهجها، بل هي في مرحلة انتقالية للدخول إلى الطور الثاني. ولا يمكن التكهّن بالمهلة الزمنية للانتقال إلى هذا الطور لأنّ ما جعل الطور الأول يبدأ ويتفاعل لم يكن في الأساس "قراراً حزبياً" من حزب الطبقة العاملة أو من النقابات التي تدور في فلكه وإن كنّا نأمل ذلك! على أيّ حال، ينبغي متابعة نضالنا اليوميّ ضدّ النظام بكافة قواه وفروعه وفي طليعتها طبعاً الأوليغارشية المالية وجعله يأخذ مستوى أكثر جذريةً. وينبغي علينا التأكيد في كلّ مناسبة أنّ معركتنا مع هذا النظام هي معركة طبقية في المقام الأوّل، وبأنّ مسار المواجهة مع هذه السلطة العفنة سيطول حتماً ولكنّ الأهمّ أنه بدأ في ١٧ تشرين الأول/أكتوبر. سأصطحب هذا المقال معي أينما حللت للردّ على سؤال الشاب الاستفزازي "شو وين صرتو؟".

الانتفاضة ومسارها التصاعدي

 
58 يوماً على انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول /أكتوبر، زادُها إصرارٌ كبير من شعبٍ ضاق ذرعاً بهذه السلطة السياسية الفاسدة ونظامها الطائفي المتعفّن، لأنّه يستحق الحصول على أبسط حقوقه ألا وهي بناء دولة مدنية وطنية. إرادة اللبنانيين ووحدتهم قابلها "تخبّط أهل السلطة" التي غرقت بتجاذبات الاشتباك السياسي المعتاد وأغرقت البلد بانهيار مالي واقتصادي من جهة، كما أغرقت المواطن من جهة ثانية بكوارث وفضائح متكرّرة لمجازر وصفقات تأهيل البنى التحتية المهترئة والمعدومة أصلاً، والتي تفاجئ، كل عام، المعنيين في وزارتي الأشغال والداخلية والبلدية، أو البلديات، أو مجلس الإنماء والإعمار، وصولاً إلى المتعهّدين، عند أول سقوط للأمطار الطبيعية المعتادة، فيتسارعون إلى قذف الاتهامات في ما بينهم ليرفع كل منهم المسؤولية عن نفسه.

ليست أزمة مالية، إنّها أزمة الرأسمالية

 
العالم اليوم على مفترق طرق. ما كان يبدو ضرباً من الجنون منذ عقدين، صار خطاباً منتشراً على كل لسان اليوم. الرأسمالية في أزمة بنيوية، في دول المركز كما في دول الأطراف. النظام العالمي "الجديد" الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، صار عالماً قديماً ينتظر اليوم مراسم طيّ صفحته. الرأسمالية التي اعتُبِرت "نهاية التاريخ" تعيش اليوم خريفَها، واليد الخفية التي اعتبرها "آدم سميث" ناظمةً لتوازنات الاقتصاد والمجتمع في ظل الصراع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، اتّضح أكثر للناس حول العالم بأنّها يدُ الاستغلال الطبقي الظاهرة، التي تراكم الثروة لدى فئةٍ محدّدة من المجتمع على حساب باقي الطبقات الاجتماعية. ما يشهده لبنان اليوم ليس حدثاً عابراً نتج عن قرارٍ داخلي أو خارجي، أو عن ردة فعل على قرار ظالم. إنّه انفجارٌ حتميّ نتيجة الانعكاسات المدمّرة للسياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود، واستفحال الاستغلال الطبقي من خلال آليات الدين العام وخدمته الذي ينال من نصف إيرادات الخزينة التي ندفعها نحن من جيوبنا. آلية ذات هوية طبقية واضحة، تجبي المال العام من عموم الناس، لتعطي نصفه على طبق من ذهب لدائني الدولة، وهم بضعة عشرات العائلات التي تمتلك المصارف ورؤوس الأموال الكبيرة المتحكمة بسياسات الدولة الاقتصادية. تجمع الدولة الأموال من الأكثر حاجةً لتعطيهم إلى كبار الطغمة المالية. هي آلية نهبٍ منظّمة لمراكمة رأس المال، تزيد من تركّزه وتمركزه، لتترك العاملين والأجراء والموظفين والمُعطّلين عن العمل وصغار التجار وذوي الدخل المحدود رهينةَ سيادةِ الهيمنة الطبقية المطلقة عليهم. جهاز الدولة في خدمة رأس المال كما قال لينين في "الدولة والثورة"، وسياساتها مكرّسة لخدمته وتعزيز سيطرته على مفاصل السياسة والاقتصاد، فيما الناس يعملون ليل نهار لتحصيل ما لا يكاد يكفي عيشهم، ولتسديد فاتورة خدمة الدين العام، أي فاتورة خدمة رأس المال اللبناني. لبنان ليس جزيرةً معزولة، والأزمة ليست محصورةً فيه. السمة العامة للرأسمالية اليوم هي سمة الأزمة الكونية. تأخذ أشكالها المختلفة في كل مكان وزمان بحسب الظروف الموضوعية السائدة فيه. انتفاضات الشعوب في العراق والسودان والجزائر وغيرها هي تعابير مختلفة عن أزمة تتشابه في مضمونها. حرّاس رأس المال قد يكونون أركان دولة طائفية أو أركان جيوش مستبدة أو ملكيات تابعة، إذ تتعدّد الأشكال لكنّ المضامين تتلاقى. وفي حين تأخذ ارتدادات الأزمة طابع الانتفاضات الشعبية المطالبة بالتغيير في لبنان والعراق والسودان والبرازيل وإيران والتشيلي وغيرها، تتمظهر الأزمة نفسها بأشكال مختلفة في دول المركز الرأسمالي. ولعلّ أبرز مظاهر التحولات السياسية هناك هو الحالة الشعبية الواسعة التي بات يستقطبها التيار الاشتراكي في بريطانيا والولايات المتحدة بقيادة جيريمي كوربين وبيرني ساندرز اللذين يبنون شعبيتهم الواسعة على وعود العدالة الاجتماعية، بدءاً بتأميم قطاع النقل العام والبريد والطاقة والمياه، وتوسيع التغطية الصحية المجانية وبناء المساكن الشعبية كما هو الحال في برنامج حزب العمال البريطاني، أو بإقرار التغطية الصحية الشاملة وإلغاء ديون الطلاب وجعل التعليم مجانياً بالكامل وتمويل كل ذلك من خلال ضرائب واسعة على ثروة الرأسماليين كما هو برنامج "ساندرز" في ترشحه للرئاسة الأميركية. قبل سنوات، كانت هذه البرامج لتثير موجة من الاستنكار الإعلامي وحتى الشعبي في هذه الدول، مع أنّها برامج ذات مناحٍ اشتراكية ديمقراطية خاصة في حالة "ساندرز"، لكنّها صارت الآن تلقى التفافاً شعبياً متجذّراً ضدّ سياسات رأس المال. وفي حين تعمل الطبقات الحاكمة، وأجهزتها الإعلامية والأمنية على منع فوز أي من هؤلاء، وهي تنجح في ذلك حتى الآن، غير أنّها لا تستطيع أن تغيّر من حقيقة التفافِ تيارٍ شعبيّ واسع خلف الأفكار الاشتراكية ودعوات التغيير في النظم القائمة. لا يتردد "كوربين" و"ساندرز" في طرح الاشتراكية كحل مستقبلي تقدمي لبلدانهم، ولا تتردّد فئات اجتماعية واسعة، خاصة الشباب والطلاب، في تبني هذا الطرح خياراً وحيداً لحلّ الأزمات الاجتماعية المستفحلة. إنّ انتفاضاتِ شعوبِنا العربية وشعوبِ أميركا اللاتينية التي سبقتها وصعودَ التيار الاشتراكي في دول المركز الرأسمالي، أوجهٌ مختلفة للتعبير عن حقيقة واحدة: الرأسمالية في أزمة، وقد وصلت إلى حدودها التاريخية. لقد استوفَتْ مهمتها التاريخية، وظهر جليّاً انحسار أفقها، في ظل التعاظم المتسارع في مستويات اللامساواة بين الأكثر غنىً والأكثر فقراً، وفي ظلّ التناقض القائم بين قوى العدوان والاحتلال والهيمنة والشعوب المنتفضة والقوى الصاعدة. أزمتُنا ليست مالية، ولا نقدية ولا رقمية، وليست مشكلة موظف فاسد أو مشروع جرت سرقته زوراً. أزمتنا بنيوية، في صلب نظامنا الذي يولّد الفساد من بنيته المذهبية واعتماد الزبائنية في إدارة القطاع العام، وفي صلب سياساته الاقتصادية المكرّسة لخدمة المصارف ورؤوس الأموال. أزمتُنا جزءٌ من الأزمة الرأسمالية الشاملة، وحلولها لن تكون إلّا جزءاً من حلول الأزمة الشاملة نفسها. منذ شهرين كان هتافُ "الوطن للعمال تسقط سلطة رأس المال" أشبهَ بصرخةٍ في صحراء ليس فيها من يسمع أو من يجيب. اليوم هذا الشعار يكاد يكون داخل كلّ بيت. اليوم قد يعتبر البعض أنّ تجاوز الرأسمالية، وكسر الهيمنة الامبريالية ضرباً من ضروب الخيال، لكن خلال سنوات معدودة، قد يصير هذا الطرح مطلوباً، الآن وهنا، داخل كل دولة.

لسنا رعايا طوائف ولا أهل ذمّة

 
بلغت عملية الاستشارات النيابية، التي كانت مقرّرة الاثنين الماضي، والتي تأجّلت مجدداً لفترة أسبوع، مرحلة خطيرة، ليس بمفاعيلها أو بسبب عدم إجرائها، بل لكونها دخلت، وبقوّة، في مهبّ المحاصّة الطائفية وبزار المزايدات المذهبية. وفي تطور مريب توقيتاً وشكلاً، خرجت من دار الفتوى تسمية مرشح لتأليف الحكومة بعينه، ضاربة بذلك عرض الحائط، بالدستور والطائف وبكل الأعراف، حتى ولو كانت شكلية، وواضعة، في الوقت نفسه، الحرم المذهبي على أي ترشيح آخر. إنّ هذا الأمر، ما هو إلّا استكمال للمنطق المتداول منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، والقائم على مقولة "الأقوى في طائفته"، أي بمعنى أدق تحالف الأقوياء في طوائفهم وليس أيّ أحد آخر. وفي السياق ذاته، يندرج ما جاء به كلام مطران بيروت، حول التلميح، والذي هو أوضح من التصريح، بحقّ مكوّن سياسي في لبنان ومن زاوية استقدام عامل السلاح كمحدّد للثقل السياسي، والردود على تلك التصريحات، السياسية منها أو من المرجعيات الدينية، يُضاف إليهما السجال الحاصل حول أحقيّة القانون الكنسي على القانون المدني في قضايا، هي من صلب القانون الجزائي، وبخاصة أن القضية المشار إليها هي قضية تحرش بأطفال قصّار. وإذا أضفنا إلى تلك الأمور المذكورة تصاعد الخطاب الطائفي، الذي يستبطن إشاعة جوٍّ من إعادة الفرز في الشارع، فإن ذلك يعني، بأنّ الأوضاع في الأيام القادمة ستشهد على الأسوأ، وبأن القوى المتحكمة في القرار السياسي لجأت إلى سلاحها القاتل، وذلك من خلال استقدام الطوائف وجمهور المذاهب إلى ساحة المواجهة، تثقيلاً لمواقفها في عملية التفاوض في ما بينها، أو تصويباً عليهم أو على من سيكون معهم. إنّ هذا الأمر ينبئ بتصاعد الانقسام العمودي، وإعادة البلد إلى ساحات طوائفه ومذاهبه، بعدما أسقطت الانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ أكثر من خمسين يوماً تلك الحالة، وأسّست لنمطٍ جديدٍ من الاعتراض، قائم على أساس القضايا والمطالب. وعليه فإنّ الأمور ستتّجه في الأيام القادمة إلى المزيد من التوتّر ربطاً بتلك المستجدات، وستشهد الساحات السياسية المزيد من الخطابات المزايدة في الحرص على حقوق الطوائف وزعاماتها، والتي ستكون دوماً تحت مسمّيات العيش المشترك. وعليه فإنّ الأمور ستذهب، من جانب قوى السلطة، نحو إيجاد المخرج الذي يثبّت هذه الحالة ويقوننها بطريقة ما للسير فيها. وستشهد الأيام والساعات القادمة المزيد من التشاور بين أطرافها، بهدف إبقاء الحالة الطائفية على ما هي عليه. من هنا نرى، بأنّ استخدام عامل الدين واستقدامه من قبل أصحاب الغبطة والسماحة والنيافة والفضيلة إلى مسرح الأحداث، مشاركين أو محرّضين، متّخذين المواقف إلى جانب مشاريع سياسية أو أطراف بعينها، ومسخّرين كل ما لديهم من إمكانيات ووسائل، ومستنفرين كل عدتهم وعديدهم للقضاء على أي أمل، ولو كان مفترضاً بإحداث تغيير سياسي أو اجتماعي، سيكون له الأثر الأكبر في منع البلد من الانتقال من دولة المزارع والرعايا إلى دولة وطنية مدنية يشعر فيها المواطن بالانتماء، وينال حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية. ليس أمام جمهور الشعب اللبناني، الرافض لكل تلك الممارسات والسياسات والسلوكيات التي خرج من أجلها إلى الشارع ولا يزال، إلّا الاستمرار في تلك المواجهة. فأيّ عملية تراجع اليوم ستُعطي للمنظومة الحاكمة مشروعية سياسية افتقدتها طوال هذه الفترة؛ فنزعُ الصفة الدستورية عن تلك المنظومة إجراءٌ يجب اللجوء إليه. لقد صادرت دورُ الطوائف وصروحها أدوارَ المجالس الرسمية ونصّبت نفسها في المكان الذي يقرّر من يكون الرئيس ومن هو المسؤول، وحرّمت ذلك وحلّلت ذاك. لقد سقط الطائف بشكلٍ نهائي، وما إكرام الميت إلّا دفنه، لذلك فلتكن الدعوة وبوضوح، إلى إنهاء هذا النظام السياسي القائم على المحاصّة الطائفية، ولإعادة تشكيل السلطة السياسية من جديد وعلى أساس مختلف، يمنع التدخلات فيها الداخلية منها أو الخارجية، من خلال كسر القيد الطائفي. وعلى ذلك فإن الإشهار بذلك الموقف يجب أن يكون في كل الساحات، صوتاً وقولاً وفعلاً واحداً. بالإضافة إلى العمل وبشكلٍ جاد لإنضاج مشروع سياسي بديل عن سلطة الطوائف وأمرائها. إنّ التعنّت و"الدلع" السياسي لبعض الأطراف من خلال وضع الشروط والشروط المضادة تحسيناً لموقعه، معطوف عليها استغلال دولي مشتبه فيه، هو أمر يجب التنبه له لأنه سيُدخل البلد في حالة من الفوضى الموصوفة والتي ستطيح بما تبقّى منه. وبناءً على ما تقدم، فإنّ تشخيص المشكلة ومسبّباتها وحصرها في مسبّبيها، من قوى سلطوية واقتصادية- مالية، تابعة ومرتهنة سيكون الأساس الذي سيُبنى عليه استمرار الانتفاضة وتفعيلها. إنّ وصول الوضع إلى هذا المستوى المتأزّم من التوتّر لا يُنذر إلّا باستنفار الطوائف وقواها مجتمعة لإعادة تمتين ركائز نظامها السياسي، الذي اهتزت بعض ركائزه خلال الفترة المنصرمة. إنّ الدفع باتّجاه بلورة خطاب سياسي واضح، وباتّجاه تقديم السياسي كأساس للمواجهة ربطاً بطبيعة النظام الحاكم، المتداخل فيه السياسي بالاقتصادي وبالاجتماعي من خلال الريع والفساد والمحسوبيّات وغيرها من عدة إخضاع الشعب اللبناني بلقمة عيشه ومستقبل أولاده، لدفعه إلى الولاء الأعمى، يتطلب منّا جرأة باتجاه قول الأمور بأسمائها، من دون أي اعتبار لأي قضية، وطرح ذلك على كل من يشاركنا الرأي لنسير معاً في هذا الاتجاه؛ فالمسؤولية الكاملة في كل ما وصلنا إليه تتحمله، إذن، المنظومة السياسية بأدائها وسياساتها الاقتصادية، المفرطة في الليبرالية، المعتمدة على الاستدانة وبفوائد عالية جداً من دون ربطها بمقتضيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي في صلبها ومعها، بلغ الفساد مستويات غير مسبوقة. لقد أصبحت هذه المعادلة التي حكمت لبنان منذ الطائف وحتى اليوم خطراً واقعاً على البلاد والنظام، هذا ما يشكل المقدمة لولادة وعي جديد لدى فئات اجتماعية واسعة، يقوم على ضرورة تغيير عميق في بنية الاقتصاد اللبناني باتّجاه تحويله إلى اقتصادٍ منتج، واستعادة أو إنتاج دور وظيفي ربطاً بحاجات الإقليم، وهذا سيشكل أساساً لتحالف واسع. ومن المفيد الإشارة هنا، بأنّ على الانتفاضة الشعبية إدراك هذه الضرورة، كي تتحول، من حالة الاحتجاج إلى مشروع سلطة وإلى اجتراح مخرج حقيقي وتاريخي لأزمة لبنان البنيوية والمتجذرة منذ نشأة الكيان. إنّ تعقيدات الداخل وتطورات الخارج، وبالتّحديد ما يجري في المنطقة، تربك الحسابات المتناقضة لقوى السلطة وتبدّل منطلقاتها. فأي من تلك المنطلقات يمكنها أن تشكل قاعدة اتفاق في ما بينها؟ لا أحسب أنّ ثمة جواباً حاسماً عن هذا السؤال عند أيّ فريقٍ من أفرقاء معادلة التسوية الأخيرة. فجميعهم ينظرون إلى الموضوع من زاوية التركيبة الداخلية للنظام السياسي، وهنا، بالنسبة إليهم، الرؤية أكثر وضوحاً؛ فهناك مصالح مشتركة يمكن أنْ تشكّل قاعدةَ أمانٍ لحكمٍ، أطرافه راضون عنه، وعلى ذلك هم فريق واحد. وأيضاً ينظرون من زاوية قضايا المنطقة، وبالتحديد المرتبطة منها بالصراع الدائر وحسابات أطرافه، وهنا تبدو الرؤية مغشاة حدّ العمى، وبذلك يتكوّن الانفصام الواضح في الخطاب السياسي لتلك المنظومة السياسية والاقتصادية-المالية. فبين التحذير، من قبل بعض أطراف السلطة، من التدخلات الغربية على خطّ الانتفاضة ومن خلال قوى سلطوية، وبين النقاش في الشأن الداخلي الدائر اليوم حول كيفية إعادة إنتاج التسوية التي كانت قائمة والاستماتة في إعادتها بهدف إعادة تثبيت السلطة، يكمن التناقض الأساس، ما جعل خطة التشويش على الشيء الإيجابي المحقق اليوم في الشارع، تكون من خلال التشكيك والتخوين واستدراج التوتر المذهبي والطائفي والمناطقي وهذا ما يحصل اليوم. إنّ ذلك يتطلب بناء النقيض، والذي لا يجب أن يكون محلّ مراوحة أو محطّ استمهال، بل أن يتقدّم، وبمشروع واضح يقدم نفسه من خلاله؛ مشروع يجسّد تطلعات الشعب اللبناني المنتفض في كل الساحات وآماله في بناء وطن على قدر التضحيات التي قُدمت. هناك خطوات جدّية في هذا الاتجاه: الصمود في الساحات هو مطلوب، الوضوح في الموقف هو أساس، والبرنامج السياسي للخروج من الأزمة يجب أن يُعلن ومن أصحابه الحقيقيين، والذين هم في الشوارع منذ أكثر من خمسين يوماً. في النهاية، ولأخذ العلم فقط، نحن مواطنون ولسنا رعايا طوائف ومذاهب وأهل ذمّة عند من يصادرون أمر السماء وأمر الأرض.